يبالغ الكثيرون في قوة وتماسك النظام العسكري الحاكم في بلادي ، لكن
الأدوات التحليلية لأؤلئك تعتمد معطيات بدائية وخرافية بالغة السذاجة ..
فليس غريباً أن يُحدثك مثقف أو سياسي عن عامل الحظ أو الصدفة كمرتكزين
أساسين لوجود الجنرال الإنقلابي ولد عبد العزيز في السلطة لحد اليوم ، بدءاً
بتفادي ترحيله إلى منطقة لمغيطي بقرار رئاسي من العقيد ولد الطائع أيام العملية
الإرهابية الشهيرة ..
ومرورا بنجاته من الموت إثر سقوطه من الطائرة الصغيرة إبان الحملة
الانتخابية 2009
، وانتهاء برصاصة أطويلة الناجمة عن "جريمة شرف" في الثالث
عشر من شهر اكتوبر 2012 .
***
الغباء السياسي لهؤلاء وأؤلئك لا حدود له ، لكن مجرد قضاء يومين في
الاحتجاز داخل زنزانة بإحدى مفوضيات الشرطة تتجلى أمام ناظريك كل ملامح القوة
ومكامن الضعف لهذا النظام المتهالك ..
لتُجزم بأنك أمام نظام يتآكل من الداخل ، وتتهاوى أركانه أمنياً
وسياسياً واقتصادياً لعدة أسباب و عوامل من أبرزها جشع المحيط الضيق لرأس النظام ،
واستحواذه على مقدرات البلاد، واستبداده بالسلطات الثلاث ، وفساده ، وتنكيله بكل النشطاء
والمعارضين .
***
مساء الأربعاء الماضي كنتُ في ميدان " ملتقى طرق مدريد"
للمشاركة في الوقفة الأسبوعية احتجاجا على غلاء أسعار المحروقات ..
تلك الأسعار التي تؤكد كل الأرقام أن النظام الموريتاني يتربح منها من
خلال فارق 200 أوقية
كفائض عن عملية الشراء والنقل لكل ليتر من المحروقات يتم استهلاكه في موريتانيا .
الوقفة الأسبوعية مرت بسلام كالعادة ، كانت سلمية لم تشهد أي حضور
أمني .. بل كانت من أكثر الوقفات نجاحاً ..
بعد انتهاء التظاهرة انفض المتظاهرون كالعادة وتم إخلاء دوار مدريد ،
ومع عملية الإخلاء وقف باصان للشرطة ، ترجل منهما أزيد من عشرين عنصراً أمنياً
مدججين بآلات القمع ووسائل التنكيل ..
من بعيد كنت أقف على الجهة الأخرى من الشارع باتجاه الطريق المؤدي إلى
المطار أنتظر سيارة أستقلها إلى وجهتي صحبة رفيقي في حركة 25 فبراير سيدي عبد الله ولد البخاري ..
بطريقة مفاجئة باغتتنا عناصر من الأمن واقتادونا إلى أحد الباصات الذي
وجدنا داخله ثلاث شباب ...
صعدنا إلى باص الشرطة ، وأمر قائد الفرقة بإخلاء سبيل الشباب الثلاث ،
ليصعد مكانهم الخليل محمود عثمان وحامد ولد بلال ..
واستمر الباص متوقفاً لأزيد من عشرين دقيقة ، صادروا خلالها هواتفنا..
بعدها انطلق بنا إلى مفوضية لكصر 2 الواقعة في سوكوجيم ps ..
أدخلونا إلى المفوضية وقضينها بها قرابة أربعين دقيقة ، لحين انتهاء الطبخة الأمنية التي
يتم التحضير لها من طرف الأمن السياسي ..
فجأة نادوا باسمي .. وذهبوا بي إلى قاعة التحقيق
لأخذ بعض المعلومات ..ففهمتُ أنهم يريدون تفريقنا إلى عدة مفوضيات ..
نادوا على الخليل ، وبعده سيدي عبد الله .. ذهبوا بنا ،، وتركوا حامد بالمفوضية
.
اتجهنا إلى مفوضية لكصر 1 وهناك أنزلوا سيدي عبد
الله ليتم احتجزه هناك .. وذهبوا بي إلى المفوضية الرابعة بتفرغ زينه الواقعة
قبالة مقر الأمم المتحدة ..وغادروا بالخليل دون أن يخبروني إلى أين ..؟ ( علمتُ
لاحقاً بعد إطلاق سراحنا أنه كان في مفوضية تفرغ زينه 2 )
عند نزولي من السيارة أمام المفوضية استقبلني شرطي يدعى السالك فال
مُبدياً كل ترحابه .. وقد سبق أن كان مسؤولا عن احتجازي لعدة مرات ..
وقفتُ أنتظر إجراءات تسليمي للمفوضية ،،
دخل السالك فال رفقة عناصر الشرطة الذي أتوا بي ..
بعد دقائق خرجوا ،، وقد تغيرت الملامح وتقطبت الوجوه وتأزم الوضع ..
غادرت السيارة .. وبقيتُ في المفوضية 4
وفي طرفة عين تحول الشرطي السالك فال إلى إنسان
آخر .. وبدأت معاملته اللاإنسانية من أول وهلة ..
استدعى معه عناصر من الشرطة ، أخذوا بياناتي ,,
وفتشوني بطريقة بالغة الإهانة ..
خلعوا ثيابي .. وصادروا كل أغراضي .. وأدخلوني
إلى زنزانة مُعتمة في منتهى القذارة ..
أوصدوا عليَ الأبواب والأقفال..
كانت الساعة في حدود الثامنة من مساء الأربعاء ..
***
بدأت اللحظات تسير ببطئ ،، في ظلام دامس ،،
باعوض ينهش جسدي بوتيرة متسارعة .. أزيد من عشرين قنينة مياه مليئة بالبول فهي
وحدها التي يقضي فيها المعتقل حاجته داخل هذه الزنزانه اللعينة ..
قذارة
المكانه وروائح الحشيش تُزكم الأنوف وتمنع أي هواء نقي للتسرب داخل القفص ..
بدا لي أن الأمر غير عادي .. وتحققت من نوايا
النظام الخبيثة لتوريطي في قضية لم أدرك أبعادها ولا خيوطها ..خاصة أنه تم اعتقالي
خارج التظاهرة، وبعد انتهائها، وهو أمر غير طبيعي ..!
من داخل زنزاتي القذرة كنتُ أسترق السمع من بعيد
إلى عناصر الشرطة يتحدثون عن حادثة اعتقالي في الأسبوع المنصرم في مدينة النعمة
بالشرق الموريتاني ، وفاجأني من حديثهم أن قال أحدهم أنني وأصدقائي من "
أفشلنا زيارة الرئيس بالتشويش عليها " !
كان هذا خيطاً أولياً لكنه من غير المنطقي يكون
السبب المباشر لاعتقالنا اليوم ..
بتُ ليلتي في وضع غير مستقر ، لم يغمض لي جفنٌ
حتى الصباح ..
وفي حدود التاسعة صباحاً حاولتُ الوقوف أمام
الحاجز الحديدي المُطبق على زنزانتي ، وطلبتُ من عناصر الشرطة أن يبلغوا المفوض
بوضعيتي ،،،
كانت رغبتي عارمة بمعرفة سبب اعتقالي .. خاصة في
هذه الظروف الاستثنائية التي منعوني فيها من أبسط الحقوق ..
لا شراب ، لا أكل ، لا تنفس ، ولا حتى السماح
لإخبار الرفاق والعائلة عن مكان الاحتجاز ..
في انتظار جواب المفوض نهرني مسؤول الشرطة
القضائية المدعو " سيدي عبد الله" قائلا : اغرب عن وجهي إلى زنزانتك ..
أخبرته بأني مصاب باختناق في التنفس .. فردَ عليَ بالقول : " فلتمتْ هناك ..
تلك ليست مشكلتي " !
عدتُ أدراج خيبتي إلى دهاليز الزنزانة .. وقد
بدأت ثلاثية العطش والجوع والإختناق تعزف سيمفونيتها المؤلمة في وضع يزداد تعقيداً
سوءاً بعدد الثواني والدقائق ..
في حدود الخامسة مساء جاءني أحد عناصر الشرطة
وقال لي بأن المفوض أخبره بأنه يتلقى الأوامر بخصوصي من طرف جهات عليا وأنه لا
يمكن أن يخالف تعليماتها تحت أي ظرف ..
استجمعتُ كامل قواي ، وعدتُ إلى السياج الحديدي
، بدأتُ أضربهُ وأصرخ بملء صوتي .. وأصبُ جامَّ غضبي ولعناتي على العصابة العسكرية
الحاكمة ..
أبديتُ لهم إصراري بأنه من حقي أن أعرف التهمة
الموجهة إليَ ، وضرورة تحويلي عن هذه الوضعية البائسة التي أقبع فيها كما لو أن
جهة ما تريد تصفيتي جسدياً في هذه الظروف ..
***
خلال هذه الفترة كنتُ أسمع بين الحين والآخر
أصوات بعض المحتجزين يتم تعذيبهم واستجوابهم تحت الضغط والتعنيف ، وهو الأمر الذي
لم يكن يخطر لي على بال ..
اثنتين من هذه الحالات تمكنتُ من رؤيتها بعيني
.. أحدها طفل قاصر عمره 14 عاماً ،
تعرض أمامي للضرب المبرح من قبل عناصر من الشرطة بسبب سرقته لحنفية مياه وبعض
أغراضها حيث لا يتجاوز سعر الجميع عشرة آلاف أوقية ..
الحالة الثانية حالة شاب في العشرين من عمره ، مدمن مخدرات ، انهال
عليه عناصر الأمن بضرب عنيف حتى أوقعوه أرضاً وكاد يُغمى عليه ..
كما لا حظتُ أن الموقوقين يمارسون الكثير من الأعمال تحت الإكراه بما
فيها تنظيف المفوضية وقد شاهدتُ ذلك بنفسي ..
***
الهاجس الذي كان يساورني في كل حين هو أن يتم الإعتداء عليَ داخل
الزنزانة من قبل بعض الموقوفين بأوامر من عناصر الأمن ..
لكن الصدفة أن هذه العصابة تعاطفت مع حالتي بشكل إنساني مؤثر ..
اثنان من هؤلاء الموقوفين المجرمين كادوا يكسرون السياج الحديدي من
أجل إخراجي خاصة بعد أن ساءت وضعيتي الصحية في الليلة الثانية من التجويع ..
وفكر أحدهم بكسر نفق في الجدار من أجل تهريبي .. لكني أخبرتهم بأنني
صاحب قضية عادلة مستعدُ لتقديم نفسي وحياتي قرباناً لها ..
قضيتي هي قضية العدالة الإجتماعية ودولة القانون والتوزيع العادل
للثروة وحرية الرأي والمعتقد ..
***
بتُ ليلتي الثانية في الزنزانة في وضع صحي متردي ، أفقد الوعي من حين
لآخر ، وأُصاب بدوار جنوني ، وقشعريرة تجتاح جسدي من قدمي لرأسي ..
في وقت متأخر من الليل وقف عنصران من الشرطة ونظرا إليَ من ثقوب
السياج الحديدي .. وشاهدا وضعيتي .. وأبديا لي بعض التعاطف ..لكنهما لم يستطيعا
تقديم الإسعاف.. بل اكتفيا بالدعم المعنوي بالقول بأن كل الأنبياء والعظماء عبر
التاريخ قد تعرضوا لمثل هذه الظروف ..
فرددتُ عليهم بالقول أن ما يحضرني الآن هو طغيان فرعون وجبروت نيرون
..
***
في صباح الجمعة ساءت ظروفي بشكل كبير ، وصار عصياً علىَ أن أقف على
رجلي بشكل سويّ ..
في حدود الساعة التاسعة لاحظت حركة أمنية غير طبيعية داخل المفوضية ..
استدعاني عنصر من الأمن وذهب
بي إلى مكتبه لمدة دقيقتين ثم تلقى تعليمات بأن يعيدني للزنزانة ..
بعد نصف ساعة استدعاني الشرطي السالك فال فطلبتُ منه أن يبلغ المفوض
بأن يأتيني بطبيب أو ممرض في أسرع وقت ..
ذهب مُسرعاً وعاد إليَ ، وأوهمني بأنه سيذهب بي إلى المستشفى ..
***
اقتادني الشرطي السالك فال إلى مكتبه .. وأجلسني على كرسي ..
التقط مني ثلاث صور بكاميرا رقمية ,, حاولتُ ثنيه عن ذلك ، فلم أستطع
..
أخذ أوراقاً وكتب محضراُ أمامي دون أن يوجه إليَ أي سؤال .. ولم يأخذ
وجهة نظري في أي شيئ .. و لم أتوفر على أي معلومة عما كتب في ذلك المحضر المقيت ..
بعد عشرين دقيقة من كتابة المحضر كنتُ ألح عليه بأن يسرع بي إلى
المستشفى .. أو يأتيني بطبيب ..
أنهى كتابة المحضر ..
وطلب مني أن أبصم على الورقة الأخيرة منه دون أن يسمح لي برؤيته ..
فرفضت أن أبصم .. عندها استدعى عناصر من الشرطة واستخدموا القوة من
أجل الإمساك بي والسيطرة على يديّ لإجراء البصمة بشكل تعسفي ..
وبالطبع نجحوا في ذلك ، لأنني لم أكن في وضع يسمح لي بالمقاومة
..فكأنت مسألة كارثية وخطيرة لا أدري ما عواقبها ، حيث تمت كتابة محضر زائف لا
علاقة لي به ، ووُقعَ ببصمة كفّي وأصابعي عن طريق القوة والإكراه ..!
أعادوني بعدها إلى الزنزانة ، وبعد حوالي نصف ساعة استدعوني وأعادوا
إليَّ ملابسي وأغراضي وأخلوا سبيلي ..
خرجتُ في وضعية بالغة الصعوبة دون أن يكلفوا أنفسهم عناء نقلي إلى
المستشفى أو إلى منزلي ،،
فتحتُ هاتفي واتصلتُ برفاقي وعائلتي ، فهرعواَ عليَ وذهبوا بي إلى
إحدى العيادات الخصوصية لأتلقى الإسعاف ، حيث أظهرت الفحوصات التي تم إخضاعي لها انخفاضا
شديداً في الضغط ..
***
ما لا تفهمه العصابة الحاكمة أننا أصحاب قضية عادلة ، وإيماننا بحتمية
الثورة لا يتزعزع ولا يتأثر ..
سلاحنا في هذه المعركة هو الصمود أمام الطغيان والاستبداد واحتكار
السلطة والثروة والقوة .. ومقاومة العصابة بكل الوسائل المتاحة على شتى الجبهات
والميادين ..
وهنا أردد مع الرفيق مهدي عامل قوله " لستَ مهزماً ما دمتَ
تُقاوم" ..
لذا .. سنقاوم .. سنقاوم ..
وسنقاوم !
0 التعليقات:
إرسال تعليق